افتتاحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيه القسم
ذكريات بين أزقة المخيم
كنت في عمر الورد عندما هبت علي نسمات الحياة ، وألقت بظلال همومها علي ،
أعيش في بيت من الطوب في مخيم الشاطئ ، دخلت المدرسة الابتدائية ومنذ أن
فتحت بصيرتي على هذه الدنيا ، لم اذكر سوى أن أمي كانت مريضة وأبي يعمل في سوق العتالة ، وإخوتي مجد وجهاد كانا صغيرين جدا ولا يعرفان ما يدور حولهما من عواصف ثائرة في هذا الزمان ، كان أبي فقيرا ولا يقدر على أي شيء سوى جلب الدواء لامي المريضة والتي كانت عيني تفيض بالبكاء كلما نظرت إليها وأبحرت في عينيها اللتين تمتلئان بأمواج من الحزن والأسى فلا حيلة لنا سوى هذا البيت المتواضع من الطوب النتن ، والذي تتخلله قطرات الماء عند هطول المطر ، املك كرة من القماش كانت أمي قد حاكتها لي لألعب بها مع أصدقائي بين أزقة المخيم ، علاماتي كلها متوجة بالتفوق ، لكن ... ثمة شيء يؤرقني في المدرسة فكلما اقتربت ساعة الخروج إلى الساحة دق ناقوس الخطر بالنسبة لي ، لم أكن املك شيئا من النقود ليخفف من الحرج الذي يتراقص حولي ، وأخيرا خرجنا إلى الساحة ، كانت نظرات عيوني تفيض بالخجل كلما نظرت إلى حاجيات الطلاب ، ولكن أفضل الفرار بنفسي إلى خلف سور المدرسة خوفا من مواجهة مثل ذلك الموقف ، وبعد دخولنا إلى غرفة الصف دخل المدير إلى غرفة الصف وقال : ستتوجه المدرسة في رحلة نحو شاطئ غزة ، فعلى من يرغب بالمشاركة أن يسجل عند الأستاذ رسمي ، فما شعرت إلا وقد اغشي علي في تلك اللحظة ، أخذت أبحر في التفكير ، فأبي فقير جدا وأمي مريضة وإخوتي يحتاجون للطعام فكيف على المرء أن يفكر بنفسه دون أن يكترث بغيره ، وبعد انتهاء الدوام المدرسي سارعت إلى البيت ، وأثناء طريق العودة أخذت أتشمم رائحة الدجاج المشوي من جهة والمقلوبة والخبز الطازج من جهة أخرى ، لدرجة أنني تمنيت لشدة جوعي أن آكل كل ما تخلل إلى انفي من روائح شهية ، ولكن ثمة شيء قد هون علي ما انأ به ، وهو حصولي على العلامة الأولى في مادة الرياضيات .
كنت امسك بحقيبتي القماشية و أأرجح بها بيدي حتى وصلت إلى مدخل المخيم غريب : كانت الزقاق تعج بالناس ، وكانت نظراتهم موجهة إلي كالسهام في بريقها ، علت أصوات النحيب شيئا فشيئا ، وأصبحت أقدامي ترتعش ، ولم يكد قلبي يتوقف عن النبض ، انصمت أذناي عن سماع أي شيء ، وقفت على باب المنزل الخارجي ، صوت قد اثقب أذني وقطع أحشائي ، انه صوت صراخ أختي مجد ، فإذا بها تركض نحوي ومقلتيها تحدق بي ونظراتها تفرشها الأحزان ، سبح خيالي بعض الشيء ، وأصابتني الرعشة في قدمي ، قلت لها : مجد ما الذي حصل ، لا تقولي أي شيء لا أريد ، قالت ودموعها تتلألأ على وجنتيها : أبي .. أبي .. قلت لها : لا .. لا تقولي قالت لقد سقط شهيدا في مجزرة حدثت اليوم في بيت حانون .
ما الذي حل بي ، عاصفة قلبت كل كياني ، وأصابتني بالصدمة فاحتبس الدمع في مقلتي وكاد صدري أن يتصدع ، لم يعد تفكيري يجول بالروائح الذكية من الطعام الساخن والشهي ، بل كان أول ما تذكرته ، هو أمي المريضة وإخوتي الصغار ، فكرت مليا في مصيرنا ومصير أمي المريضة ، كانت السماء تمطر ، وقد قطعت قطرات الماء المتساقطة على فروة رأسي صفو تفكيري ، حيث كان الماء يتصبب من كل صوب في المنطقة ، حتى أني شعرت بأنني سأتمزق من شدة البرد ، لكن ... ثمة شيء قد هون علي ما أنا به ، فحزني أعطاني الدفء الذي لم اشعر به من قبل ، ودموعي الدافئة هونت علي برد الشتاء ، أمسكت بكرتي القماشية ، وسلمتها لأخي جهاد ، لأنني لم يعد لي حاجة بها ، وقررت أن أودع أيام الطفولة لأنه لا طفولة للمرء بين زقاق المخيم ، وأخيرا وبعد ان توقف المطر عن طرق فروة رأسي بقطرات الماء خرجت بالقرار الحاسم ، وفي صبيحة اليوم التالي توجهت إلى المدرسة وكالعادة احمل حقيبتي القماشية ، دخلت باحة المدرسة ، كان كل التلاميذ يحدقون بي ، توجهت نحو غرفة المدير ، طرقت الباب ، فقال المدير : تفضل ،، قلت له : وبعبارة صريحة ،، أريد أن اترك المدرسة ، المدير : صاعقة .. لا .. أنت تريد أن تترك المدرسة ، هذا مستحيل ، قال : هذا ليس مستحيلا ، لان الظروف في بعض الأحيان تفرض على المرء أشياء كان يظنها بالمسلمات ، ولكنها تصبح عكس ذلك ، قال المدير : لكنك أنت من الطلبة المتفوقين ، وخروجك منها سيؤثر على الطلاب ، وسيخلق نوعا من البلبلة فيما بينهم ، قال : أمي المريضة ... من سيجلب لها الدواء ، وإخوتي الصغار من سيأتي لهم بالطعام ، المدير : لكننا نعلق عليك آمالا كثيرة ، قال : لا تقنعني فقد حسمت القرار .
وما هي إلا لحظات ودعت مقاعد الدراسة وسلمت كتبي لمدير المدرسة ، ودفنت أيامي الجميلة تحت أنقاض المخيم ، أخذت اخط صفحات حيات الجديدة ، اعمل ليل نهار ، وقد عملت في سوق العتالة وفي المستشفيات ، وقد حكمت علي الصدفة أن اعمل آذنا في نفس المدرسة التي كنت ادرس فيها ، حتى أنني كلما مررت بصف من الصفوف أخذت أتذكر أيامي الجميلة التي قضيتها على مقعد الدراسة .
عانيت أسوء ظروف العمل ، حيث تلقيت الضرب والشتائم ، أخفيت دمعتي عن أمي والتي لو نذرتها كل حياتي لما كفيت الجزء القليل من ذلك ، لم يكن هدفي إرضاء رغبات نفسي فحسب ،،
إنما لأعوض إخوتي عن النقص الذي أحاط بي وانأ على مقاعد الدراسة ، بل وكان هدفي الأول والأخير هو إرضاء أمي المريضة ، ومع مرور السنوات كانت أمي قد توفيت على اثر المرض الذي أصابها ، وقطعت عهدا على نفسي أن اعلم إخوتي الصغار ، لأنه لا سبيل للمرء في هذا الزمان سوى شهادة الدراسة ، كنت اسهر مع إخوتي في الامتحانات ، اطهي لهم الطعام ، أنظف لهم البيت ، أذهبهم إلى الرحلات ، ادفع لهم الأقساط ، وحتى أنهم اجتازوا مرحلة الجامعة ، فجهاد أصبح دكتورا ومجد معلمة ، أصبحت اشعر بالوحدة بعض الشيء ، فأنا الوحيد الذي لم اعد املك أي شيء يحتذى به في هذه الدنيا ، أصبحت اشعر بتكبر إخوتي الصغار علي ، فجهاد قد تزوج من امرأة روسية ، حتى انه لم يعد يأتي ليزورني أو يتحدث معي عبر الهاتف ، أما مجد ، فهي مشغولة بزوجها وبيتها وعملها.
لم اعد أقوى على العمل ، فهمومي سيطرت على عقلي ، وأخذ الشيب يكسو فروة رأسي ، فلا ريب أن الفقر علمني أشياء كثيرة في حياتي ولكنني فقدت أنفس شيء في حياتي ... ألا وهو ... مقعد الدراسة .
بقلم الطالبة : نداء الأطرش
ملطووووووش